العدل أس العمران وعمود نظام كل شيء
العدل أس العمران وعمود نظام كل شيء
إن اسم العدل مشتق من المعادلة بين شيئين، وهو بذلك يقتضي وجود شيء ثالث وسط بينهما، وقد جاء في كلام العرب استعمال اسم الوسط بمعنى العدل في بعض الأحيان، فقد أخرج الترمذي في صحيحه عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: ﭽ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭﭼ (البقرة: 143) قال: ( عدلا، والوسط العدل ).
وقد عرف ابن عاشور العدل في تفسيره التحرير والتنوير بقوله: "هو مساواة بين الناس، أو بين أفراد أمة، في تعيين الأشياء لمستحقيها، وفي تمكين كل ذي حق من حقه بدون تأخير".
وعن سفيان الثوري في تفسير قوله تعالى: ﭽ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﭼ ( الفرقان: 67)؛ أي أنهم لم يجعلوه في غير حقه فيضيعوه، ولم يقصروا عن حقه، ﭽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﭼ ؛ أي عدلا وفضلا، وبناء عليه قال ابن عاشور في تفسيره: لا يُعدُّ من العدل توزيع الأشياء بين الناس بالتساوي بدون استحقاق.
ولما كان العدل ميزان الله المبرأ من كل زلة، ووسيلة استقرار نظام الأمم، عدّه الحكماء من جملة الفضائل، فقالوا: الإنفاق الكثير هو التبذير والتقليل جدا هو التفقير، والعدل هو الفضيلة.
وعلّق الرازي في تفسيره مفاتيح الغيب على هذا بقوله: وهو المراد من قوله تعالى: ﭽ قُلِ الْعَفْوَﭼ (البقرة: 219)، ومدار شرع محمد صلى الله عليه وسلم على رعاية هذه الدقيقة، فشرع اليهود مبناه على الخشونة التامة، وشرع النصارى على المسامحة التامة، وشرع محمد صلى الله عليه وسلم متوسط في كل هذه الأمور، فلذلك كان أكمل من الكل.
ولما كانت نفوس الناس مجبولة على حب الماديات والماليات والوجاهات والتسلطات، وما أورثها ذلك الحب من سوء تمييز بين ما لها وما عليها، وبين حقها وحق غيرها، مما تولد عن ذلك إنخرام لقاعدة العدل والإحسان التي أمر الله بها، وقاعدة التعاون على البر والتقوى التي حث الله المؤمنين عليها، عمدت الشريعة إلى تعيين أصحاب الحقوق، وبيان أولية بعض الناس ببعض الأشياء، أو بيان كيفية تشاركهم في الانتفاع بما يقبل التشارك على طريق فطري عادل، لا تجد فيه النفوس نفرة، ولا تحس في حكمه بهضيمة، فهي لم تعتمد في هذا على المصادفة، ولا على الإرغام، ولكنها توخت نظر العدل والإقناع حتى لا يجد المنصف حرجا، ثم لما أحكمت سدها وركزت مداها أمرت الأمة بامتثاله، وحددته تقريبا لنواله، ولهذا كان العدل واجبا في جميع التصرفات بين الناس، فمتى بني التصرف على هذا الأصل تحسنت طرق أدائهم في الحياة، وترسخ التعاون والتعامل العادل بينهم، وحصلت الثقة بين أفراد المجتمع، وقلت الخصومات والمشاجرات، وحسمت المنازعات كلها أو معظمها.
ولئن كانت الشريعة قد ألزمت الناس بالعدل في جميع تصرفاتهم بإيجابه عليهم، فإننا نجدها في المقابل قد ندبت إلى الفضل، وحثت المسلمين عليه؛ حيث قال تعالى: ﭽ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽﯾﭼ ( البقرة: 237)، والفضل هو العفو عن بعض الحق، والمحاباة في المعاملة كما قاله العلماء.
وبناء عليه فإن ما يقع من وجوه الفساد في تصرفات الناس المختلفة مرجعه أو نتيجته الخروج من حال العدل إلى حال الجور والظلم؛ لأنه لا يمكن أن يوجد فساد كان العدل علة وقوعه، قال الماوردي في كتابه تسهيل النظر: إنك لن تجد صلاحا كان الجور علة وجوده، ولا فسادا كان العدل علة ظهوره، وإنما تجتذب العلل إلى الأصول نظائرها.
ولما كان نظام الكون كله مبنيا على تعاون جميع أجزائه وتكاملها فيما بينها متجانسة وغير متجانسة، كان الإنسان الذي هو جزء من هذا الكون لا يمكنه أن ينفرد بمصلحة نفسه، بل لابد له من الاستعانة ببني جنسه، فوجب التعاون عليه ضرب من ضروب الدنيا والدين، فلو لم يجب على بني آدم أن يبذل هذا لهذا ما يحتاج إليه لفسد الناس، وفسد أمر دنياهم ودينهم، ومن ثم فإن مصالحهم لا تقوم إلا بتعاونهم، وصلاح التعاون لا يكون إلا بالعدل الذي بعثت به الرسل، وأنزلت به الكتب، وجعل هو الأصل في التصرفات كلها؛ حيث قال تعالى: ﭽ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛﭜﭼ ( الحديد: 25 )، وانطلاقا من هذا المعنى ذكر علماؤنا: إن مناظرة غير المسلمين وأهل البدع ودعوتهم يجب أن تكون قائمة على العدل، فلا ينكر ما عندهم من حق، كما لا يسكت عما عندهم من باطل، قال ابن تيمية في منهاج السنة: والله قد أمرنا ألا نقول عليه إلا الحق، وألا نقول عليه إلا بعلم، وأمرنا بالعدل والقسط، فلا يجوز لنا إذا قال يهودي أو نصراني فضلاً عن الرافضي قولاً فيه حق أن نتركه أو نرده كله، بل لا نرد إلا ما فيه من الباطل دون ما فيه من الحق.
ولما كان القضاء أكثر مجالات الحياة احتياجا للعدل، بل هو ركنه الركين وأسه المتين، جاء الأمر به متكررا في آيات متعددة وبصيغ مختلفة، قصد التنبيه على خطورته في الحياة، وتأكيد وجوبه على القضاة فيما أسند إليهم من الحكم في الخصومات.
ولم يقتصر اهتمام القرآن بالعدل كمقصد من مقاصد الشريعة يجب نشره وإشاعته في المجتمع فحسب، بل اعتنى أيضا بوسائل إقامته، وذكر أخص الأمور له وهو الميزان والمكيال؛ لأن بهما تضبط مقادير الأشياء وتحدد مقاييسها، ويدخل في هذا المعنى كل ما كان الغرض من وجوده ضبط مقادير الأشياء، وتحديد مقياسها؛ حيث قال تعالى: ﭽ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﭼ ( الرحمن: 7، 8، 9 ).
والنتيجة التي نخرج بها من هذه الفقرات هي عنوان هذا المقال: "العدل أس العمران وعمود نظام كل شيء".