استنساخ أم استنسال أم ماذا...؟ وقفة مع المصطلح
إن كلمة الاستنساخ في بنيتها مصدر معناه طلب نسخة أخرى من كتاب مكتوب مطابقة للأصل كما عرفه علماء اللغة, قال تعالى: ( إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون ), الجاثية 29 .
وقد اختلفت كلمة علماء العرب في التعبير عن هذا المصطلح, الذي هو في حقيقة الأمر ترجمة للكلمة الأنجليزية cloning , وبالفرنسية clonage , فذهبت الأكثرية إلى تسميته بالاستنساخ, ومسوغهم في ذلك أن كلمة الاستنساخ هي الأقرب إلى الدقة, لأن مصطلح التنسيل أو التناسل, يعني إنتاج النسل من أبوين مختلفين في الجنس أحدهما ذكر والآخر أنثى, وحيث أن هذه التقنية لاتتضمن اتحاد خليتين جنسيتين متأتيتين من هذين العنصرين, حيث لا تسهم فيها الخلية الجنسية الذكرية بأي دور لذا ليس الناتج نسلا, وإنما صورة طبق الأصل للكائن الذي أخذت منه الخلية الجسمية .
وأطلق عليه آخرون لفظ الاستنسال, وحجتهم أن كلمة الاستنساخ التي وضعت لتقابل كلمة cloning الأنجليزية ترجمة غير دقيقة, لأن أصل هذه الكلمة هو klon باليوتاتية وتعني البرعم الوليد وتستخدم في علم الأحياء لوصف ظاهرة انشطار الخلية دون أي اتصال جنسي وكلمة clone الإنجليزية يقابلها في المعاجم ( النسلية ) التي تعني تكوين الخلايا والأنسجة أو أعضاء أو أجنة من خلية سابقة واحدة , بينما يقابل كلمة الاستنساخ copying , لذلك يرى هؤلاء أن كلمة الاستنسال هي الترجمة الصحيحة .
وقد أطلق عليه بعضهم عبارة التكاثر اللاجنسي وسمي ( لاجنسي ) ؛ لإن التكاثر الجنسي الطبيعي يتم من لقاء حيوان منوي من رجل وبويضة أنثوية من امرأة , ويحدث هذا إثر لقاء جنسي طبيعي , وهذه العملية لا يحصل فيها هذا اللقاء الجنسي الطبيعي.
وقد سماه آخرون بالتكاثر الخلوي , أو بالتكاثر الجيني , وقيل تحرير المصطلح الذي يعبر تعبيؤا دقيقا عن العملية وينطبق على المعنى المقصود لا بد من الوقوف على المقصود من هذا المصطلح ؟
إن المقصود بالاستنساخ كما بين العلماء ذلك أخذ نواة الخلية الجسدية من كائن حي , تحتوي على المعلومات الوراثية كافة , ثم زرعها في بويضة مفرغة من مورثاتها؛ أي منزوعة النواة ليأتي الجنين الجديد مطابقا تماما في كل شيء للأصل ؛ أي الكائن الأول الذي أخذت منه تلك الخلية , أما عمل البويضة المنزوعة النواة فليس سوى توفير الوسط الغذائي لتلك النواة المزروعة فيها .
لكن ما ينبغي الإشارة إليه هو وجود جملة من الحقائق تتعلّق بعملية الاستنساخ يجب الالتفات إليها وهي:
- يستحيل استنسال أو ( استنساخ المتوفين من قبل مئات السنين؛ لأنّه لا يمكن استعادة مادتهم الوراثية سليمة كاملة من غير عطب، وإن عثر على الأجساد كاملة.
- لا يمكن استنسال الأحياء بعقولهم وعبقريتهم؛ لأنَّ النسل الناتج سيكون شبيهًا للأصل جسميا فقط، حيث لا يمكن إعادة مؤثرات بيئة الرحم، أو البيئة العائلية والاجتماعية، أو البيت أو المدرسة، أو الأم، أو الأب ، للأصل، فكيف يمكن لنسلة المتوفى أن تمر بتجربته الحياتية نفسها، وأن تعيش حياته نفسها في مرحلة زمنية مختلفة وتحت مؤثّرات لا حصر لها؟
- الاستنسال، على فرض حدوثه، لا يلغي التفرّد والخصوصية والتميّز عند الإنسان؛ لأنّ النسل ستكون له شخصيته المستقلة كالتوائم، فهي لا تختلف عنه من الناحية الوراثية والبيولوجية. والفرق الوحيد أنّ النسل فرد يشابه أخاه الذي أخذت منه الخلايا لتنقل وتزرع في رحم امرأة.
- إنَّ تنسيل جنين كامل من الأمور المعقدة جدًًّا؛ لأنَّ الأمر لا يتعلق بنقل نواة من خلية جسمية إلى بويضة منزوعة النواة فحسب، بل هو مرتبط بغموض التكوين، حيث إنّه لم يُعرف إلى الآن السبب الحقيقي في قضية تمايز الخلايا، وكيف أنَّ بعضها يتحول ويتخصّص ليعطي خلايا عظم، بينما تعطي خلايا أخرى مجاورة خلايا كبد، وأخرى عصبية وهكذا. والتعقيد الأكبر أنَّ بعض هذه الخلايا إذا تخصّصت لا تتراجع أبدًا عن تخصّصها، ولا يمكن إعادة تأهيلها إلى تخصًّصات أخرى ماعدا حالات قليلة.
- إنَّه من الممكن جدًّا، وأمام التطوّر الهائل في علم الهندسة الوراثية، أن تهندس النواة جينيًّا قبل زرعها في البويضة المنزوعة النواة، وهذا أمرٌ غاية في التعقيد، وعند نجاحه، إذا حصل ذلك، لا يعود الأمر هنا استنساخًا؛ لأنَّ المولود المعدّل جينيًّا لن يكون مطابقًا للأصل الذي أخذت منه الخلية الجسمية.
ومن خلال ما سبق، وبالنظر إلى العناصر اللازمة في هذه العملية، وهي وجود بويضة، وإن كانت منزوعة النواة، والرحم الذي يتم فيه زرع تلك البويضة، والذي تتم فيه مراحل التكوين، ويتدخل بمؤثراته في ذلك، يتبيّن لنا أنَّ هذه العملية لا يمكن تسميتها بالاستنساخ، وإن كان الفرع الناتج عن ذلك مطابقًا للأصل في الشكل، كلون الشعر، والعيون، والبشرة، والطول، والقصر، وغيرها؛ لأننا لا نتعامل مع مادة جامدة حتى يكون الاعتبار بالناحية الشكليّة فقط، وإنّما نتعامل مع كائن حيّ، يتكّون من مادة وروح، مع وجود جانب معنوي فيه. لا يمكن لهذه العملية السيطرة عليه كما سبق بيانه.
وبناءً عليه نرى أنَّ المصطلح الملائم لهذه العملية هو الاستنسال، إضافة إلى أنَّ هذا المصطلح يبعد الفكرة عن اشتباهها بالخلق، الذي هو اختصاصه سبحانه وتعالى.
الدكتور عز الدين بن زغيبة
مجلة آفاق الثقافة والتراث
العدد 37