بين الفقه والمذهب: وحقيقة الإشكال الموهوم
بين الفقه والمذهب: وحقيقة الإشكال الموهوم
لقد كان كثير من الناس قديماً ولا يزالون حديثا يظنون أن المذاهب الفقهية هي جملة الفروع الفقهية التفصيلية التي يختلف فيها قول فقيه عن قول فقيه آخر فيما هو راجع للاستنباط بطريق الاجتهاد, أي أنك عندما تقول المذهب الحنفي أو المذهب المالكي أو المذهب الشافعي أو المذهب الحنبلي, فإنك تقصد تلك الثروة الفقهية الضخمة التي أورثها كل مذهب أتباعه بمشهورها وضعيفها وراجحها ومرجوحها, وبهذا الفهم أوجد الناس علاقة عضوية بين الفقه والمذهب, لكن الأمر قائم على معنى غير الذي ذهبوا إليه, إذن فما هو المذهب؟
وللإجابة على هذا السؤال نقول: إن الفقه شيء والمذهب شيء آخر؛ لأن الفقه معنى أعم من المذهب فكل المذاهب قائمة على الفقه، ولكن ليس كل فقه يقتضي مذهباً.
لأن تسلسل الفقه في الأمصار الإسلامية الكبرى أو ( البيئات الفقهية الكبرى ) التي تكونت بتفرق صحابة رسول الله e فيها، ومضى ذلك مسترسلاً منهم رضي الله عنهم إلى فقهاء التابعين، كان هو العامل في تكوين المذاهب، ولم يكن ذلك الفقه المتسلسل من فقهاء الصحابة إلى فقهاء التابعين هو المذاهب بعينها؛ لأن استقرار المذاهب لم يحصل إلا في طبقة تابعي التابعين أي في أوائل القرن الثاني .
إذن فالمقصود بالمذاهب هي الأصول التي ترجع إلى الطرائق والأساليب التي تستخرج بها الأحكام من أدلتها التفصيلية, فمذهب كل إمام نعني به الأصول التي يعتمدها ذلك الإمام في اجتهاده في استنباط الأحكام فعندما تقول: مذهب الإمام مالك فإنك تعني بذلك الأصول التي اعتمدها الإمام مالك في اجتهاده في استنباط الأحكام التي تنسب إلى مذهبه, أو الأحكام التي استنبطها تلاميذه أو غيرهم من علماء المذهب الذين استخدموا نفس الأصول في اجتهادهم.
فالصحابة رضي الله عنهم كانوا يجتهدون، ويستنبطون الأحكام، وكانت لهم أساليب متعددة في الوصول إلى استخراج الأحكام التفصيلية من أدلتها الإجمالية لكنهم لم يكونوا يبينوا ذلك، ولا يفصحون عنه، وعلى ذلك مضى الأمر في التابعين.
فلما جاء كبار الفقهاء في نفس البيئات الفقهية الكبرى التي تسلسل فيها الفقه من عهد الصحابة إلى عهد التابعين حتى وصل إليهم في القرن الثاني بدأوا يبحثون عن الأدلة ويصفون المناهج والأساليب والطرائق التي كانوا يتخذونها للوصول إلى استخراج الأحكام التفصيلية من أدلتها الإجمالية .
وتأسيسا على هذا المعنى يقول العلامة الفاضل ابن عاشور : ( وبذلك عدَّ هؤلاء أئمة مذاهب، واعتبرنا مقالاتهم في الأصول لا في الفروع أساساً للمذاهب، واعتبرنا استقرار المذاهب حاصلاً بأولئك الأعلام الذين نسبت المذاهب إلى أسمائهم من أبي حنيفة والأوزاعي والليث بن مسعد ومالك بن أنس والشافعي، وأحمد رضي الله عنهم، إذا كان لجنب هؤلاء فقهاء آخرون لا تقل منزلتهم عن منزلة هؤلاء من أمثال السفيانين، سفيان الثوري، وسفيان بن عيينة وابن أبي ليلى وعبد الله بن المبارك وعبد الرحمن بن مهدي وغير هؤلاء، فإن هؤلاء لم يخوضوا في الأصول، ولم يبحثوا في مسالك الاستنباط ولم يبينوا الطرق التي يسلكونها لاستخراج الأحكام من أدلتها، ولم يبحثوا في حجية دليل دون حجية دليل آخر، فلذلك نعتبرهم مشتركين مع أئمة المذاهب في وصف الفقه وليسوا مشتركين معهم في وصف المذهبية، فهم يعتبرون من كبار فقهاء الأمصار، ولكنهم لا يعتبرون من ذوي المذاهب.
لأن أصحاب المذاهب هم الذين تكلموا في الأدلة التي هي الأصول وتكلموا في طرائق الاستدلال ومسالك الاستنباط، ورد الواحد منهم على الآخر في حجية دليل أو عدم حجية دليل آخر، وفي استقامة مسلك من مسالك الاستدلال وعدم استقامة غيره.
هذا ما أردنا بيانه والله أعلى وأعلم بالصواب