وسطيَّة الإسلام سرُّ نفوذه في النَّاس
وسطيَّة الإسلام سرُّ نفوذه في النَّاس
إنَّ الشريعة جاءت لإقامة مصالح الناس, وتحقيق سعادتهم الدنيوية والأخروية, وبناء عليه فإن كل أمر يفضي إلى إبطال هذه الغاية, أو الإخلال بها مدفوع عن الشريعة, ولمَّا كان التشدد والتطرف في الفهم إلى إحدى الجهتين والتعمق فيهما ذلك شأنه, فإن الشريعة دلّت على رفعهما عن أحكامها وتصرّفاتها.
وبناءً عليه، كان من بين أعظم المصالح التي أمرت الشريعة المكلف بتحقيقها هي؛ التزامه في جميع تصرفاته بالتوسط والإنصاف, سواء أكان جالباً لمصلحة أم دافعاً لمفسدة, وهو ما ذهب إليه جمهور المفسرين، في تفسير قوله تعالى: (إنَّ اللهَ يأمُرُ بالعَدْلِ والإحْسَانِ وإيتَاءِ ذي القُربى وَيَنْهَى عَن الفَحْشَاءِ والمُنْكَرِ وَالبَغيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) ( النحل: 90 )؛ لأن الإفراط في أحدهما هو التفريط في الآخر, طرفان ينتهي كل واحد منهما إلى ما هو فساد من جهة الخصوص والعموم, ولذا بدأت الآية بقوله تعالى: (إنَّ اللهَ يأمُرُ بالعَدْلِ) الذي حقيقته المعادلة والموازنة بين شيئين؛ أي التزام التوسط بينهما, إلا أن ابن العربي يعطي لكلمة العدل الواردة في هذه الآية معنى أبعد مما سبق ذكره فيقول: "العدل بين العبد وبين ربه إيثار حقه تعالى على حظ نفسه وتقديم رضاه على هواه, والاجتناب للزواجر والامتثال للأوامر, وما هو في النهاية إلا إقبال على المصالح المطلوبة شرعاً, واجتناب المفاسد المدفوعة شرعاً".
إن الشارع الحكيم قد بنى وصف الوسط الذي نَعَتَ به هذه الأمة, وجعله مناط أهليتها للشهادة على الخلق, على معاني متعددة, منها السماحة, والتيسير, والتخفيف, ورفع الحرج, وقد تضافرت نصوص الكتاب والسنة في الدلالة على عناية الشارع الحكيم بهذه المعاني, عناية بلغت بها حد القطع في الاعتبار, ومن ثم فإنك لا تجد حكماً من أحكام الشريعة إلا وهو محاط بأحد المعاني السابقة.
لأن الشريعة التي أرادها الله سبحانه وتعالى أن تكون عامة للخلق شاملة لجميع جوانب الحياة وتفاصيلها دائمة في الزمن إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؛ اقتضى ذلك أن يكون تنفيذها بين المؤمنين بها والمعتنقين لها, سهلاً وميسوراً, ولا يكون ذلك إلا إذا انتفى عنها الإعنات, فكانت سماحتها أشدّ ملاءمةً للنفوس؛ لأن فيها إراحة في حال خويصتها ومجتمعها.
وبناءً عليه، فإن استخدام معاني السماحة والتيسير والتخفيف ورفع الحرج في عملية الاجتهاد ليس أمراً جديداً، ولا وصفاً مبتكراً وإنما هو قديم قِدَمَ الاجتهاد نفسه؛ بل هي ملازمة له منذ بزوغ فجره في العهد النبوي, فلم يتخلف الصحابة ولا التابعون من بعدهم ولا كبار الفقهاء ولا المجتهدون في جميع عصور التشريع عن استخدام تلك المعاني بجميع أنواعها في اجتهاداتهم؛ بل كانت المعول عليها غالبا؛ لأن نصوص القرآن والسنة النبوية طافحة بالدعوة إلى اعتبارها والنظر إليها.
إنَّ الشريعةً التي أساسُها ومبناها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد, وهي عدل كلها ورحمة كلها ومصالح كلها وحكمة كلها, لا يمكن أن يقوم فيها اجتهاد على غير اعتبار تلك المعاني ورعايتها في استنباط الأحكام.
إلا أن هناك تخوف حقيقي لدى العديد من مفكري الإسلام وعلمائه, من مسألة الوسطية المتدفقة بغزارة على الساحة الإسلامية هذه الأيام, والهالة الإعلامية المحاطة بها, ومما يعزز هذا التخوف هو الانسحاب النسبي والهادئ للحداثيين من مساحات متعددة لصالح الوسطيين, بل نجد بينهما تناغم في بعض المسائل مما ولد شعوراً قويا بأن هناك شيء ما يطبخ في الكواليس تحت هذا المسمى المنظور إليه بعين الرعاية والاعتبار في الشرع الكريم.
الدكتور عزُّ الدِّين بن زغيبة
مدير التحرير