الشريعة ومسألة المداينات
الشريعة ومسألة المداينات
إن الله تعالى لما خلق الإنسان، واستخلفه في الأرض، واستعمره فيها، لم يجعل كل فرد من نوعه قائمًا بذاته مستقلاً بحياته، بل جعل بعضهم محتاجًا إلى بعض؛ ليتخذ بعضهم بعضًا سخريًا، وجعل بقاء نوعه واستمراره في الوجود مبنيًا على تعاونهم فيما بينهم، إلا أن هذا التعاون قد يكون في الشر، وقد يكون في الخير، فنهى الله عما هو شر، ورهب منه، وأمر بما هو خير، ورغب فيه.
ولما كان تحقيق ضرورات حياة الإنسان وحاجاتها وتحسيناتها لا يتم إلا بتعاون غيره معه، وهو لإقامتها محتاج لما في يد غيره من المواد، والوصول إليها لا يكون إلا بالمقايضة أو التبرع أو المبادلة بواسطة، وهو الغالب الأعم، وهذه الواسطة هي المال، وهذا المال لما خلقه الله سبحانه وتعالى، وقسمه بين الناس لم يجعله في أيديهم على ميزان واحد، فهو غزير وفير عند بعضهم، وقليل معدوم عند آخرين، وحتى يستطيع هؤلاء الوصول إلى ضروراتهم وحاجاتهم لا بد لهم من مال، وهو غير موجود لديهم؛ لذلك جُعلت المداينات سبيلاً لهم.
والتداين من أعظم أسباب رواج المعاملات ودوران المال؛ لأن هناك من الناس من له قدرة على تنمية المال وإصلاحه وتسييره، لكنه لا يملك من مادته ما يمكنه من إظهار تلك المواهب في تجارة أو صناعة أو فلاحة، فيضطر إلى التداين لتحقيق رغبته وبلوغ غايته، كما أن من يوجد بيده المال قد يكون فاقدًا لحسن النظر والتصرف فيه، فيحول ذلك بينه وبين إصلاح ماله، فيكون عرضة للتآكل والنفاذ على مر الأيام، فيجد مالكه نفسه مضطرًا للتداين حتى لا يختل نظام ماله. ولما كانت المداينات أكثر عرضة للخصومات والمنازعات؛ بسبب إنكارالحقوق وبخس الأشياء، أو عدم القدرة على استيفاء شروط الالتزام، أو عدم القدرة على أداء الحق الواجب تجاه الغير، عمدت الشريعة إلى حفظ هذا الأصل العظيم في المعاملات بجملة من الشروط والضوابط والآليات؛ لتوثيقه وحفظ الحقوق فيه لأصحابها، وذلك في أطول آية في القرآن الكريم، وهي آية المداينة؛ حيث أمر بكتابة الدين والإشهاد عليه، وقبض الرهن عند تعذر ذلك في حالة السفر، مفصلاً كل ذلك؛ حيث قال تعالى: "يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل، ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله" (البقرة:282-283)، وقد علق الظاهر ابن عاشور على هذه الآية فقال: " فشرع الله تعالى للناس بقاء التداين المتعارف بينهم كي لا يظنوا أن تحريم الربا والرجوع بالمتداينين إلى رؤوس أموالهم إبطال للتداين كله. وأفاد ذلك التشريع بوضعه في تشريع آخر مكمل له، وهو التوثيق بالكتابة والإشهاد" (التحرير والتنوير: 3/88)، كما أن الشريعة قد أحاطت المداينات بوازع سلطاني ردعي يردع المستهترين والعابثين بأموال الناس، وطلبت من ولي الأمر الضرب على أيديهم، وفوضته في كثير من الأحيان تقدير العقوبة أو الإجراء المناسب، لمنع هؤلاء من الاستمرار في ممارساتهم.
وإن لجوء الشريعة إلى الوازع السلطاني في تشريع المداينات، ليس رغبة منها في إيلام الناس، وإيذائهم في الأموال والأبدان، بل هو سعي منها لحفظ سبيل الخير من الانقطاع والارتفاع من جملة المعاملات، حتى لا تتعسر حياة الناس، وتنقطع عنهم أسباب دوران المال ورواجه، ويتعذر قضاء حاجاتهم ومصالحهم؛ لأن أصحاب الثراء والأموال إذا لم يتوافر لهم من التشريع ما يحفظ عودة أموالهم إليهم بعد إخراجها من أيديهم، فإنهم سيكفون عن بذلها للغير، ويفضلون بقاءها في أيديهم مع كسادها على بذلها مع ضياعها، وهذا مضر بحياة المجتمع ومسار الدولة.
وفي الوقت نفسه نظرت الشريعة إلى الذين يطلبون الأموال من أيدي الناس لإصلاحها في تجارة، أو صناعة، أو فلاحة، أو لقضاء ضروراتهم وحاجاتهم، ثم يعرض لهم ما لم يكن في حسبانهم، فيقعد بهم عن أداء ديونهم بسبب عسرهم، فمثل هؤلاء طلبت الشريعة إنظارهم إلى حالة اليسر، بل جعلت لهم سهمًا في أموال الزكاة، وهو سهم الغارمين، حتى لا تبقى رقابهم أسيرة لتلك الديون وأربابها، وحتى لا تضيع على أرباب الأموال حقوقهم التي قد تدفعهم إلى الكف عن مثل هذا الخير. والله أعلم بالصواب.