أسباب القصور في تدوين السيرة النبوية
أسباب القصور في تدوين السيرة النبوية
إننا إذا تأملنا فيما كتبه المدونون الأوائل للسيرة النبوية، ومن تبعهم من المؤرخين حول المغازي والسرايا وما يلحق بها، وما بثوه من تفاصيل دقيقة لتلك الأحداث، وربما توغلوا في دقائق يصعب التثبت من صحتها، فإننا نجدهم وغالب المؤرخين لم يتحدثوا عن أسباب تلك السرايا والغزوات، إلا ما كان من ابن سعد في طبقاته - حيث أورد سبب كل سرية من هذه السرايا تقريبًا، ولكن باختصار شديد، كأن يقول: بعث النبي صلى الله عليه وسلم السرية الفلانية لردع القبيلة الفلانية؛ لأنها كانت تستعد للإغارة على المدينة - وقد تبعهم معظم كتاب السيرة في ذلك، وهو ما أعطى الذريعة وأتاح الفرصة للمستشرقين والكتاب الغربيين الخوض في تلك الأسباب والعلل وتفسيرها على حسب مرئياتهم ودوافعهم الشخصية، وجعلوها في كثير من الأحيان منطلقا لمهاجمتهم الدين الإسلامي الحنيف والطعن فيه وفي نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم، الذي وصفوه – والعياذ بالله - بالهمجية، وأنه كان يحب إراقة الدماء.
وقد يكون الدافع الذي جعل المؤرخين المسلمين وكتاب السيرة المطهرة يبتعدون عن الخوض في الأسباب والعلل لتلك الغزوات هو تجنب أي تأثير لرأيهم الخاص في مجريات الأحداث، فهم يرون ذلك من باب تحرى الصدق والعدل والأمانة في النقل والرواية.
وبالنظر في النصوص التاريخية التي دونها المؤرخون قبل الإسلام من شتى الحضارات ونصوص السيرة النبوية التي دونها علماؤنا الأوائل تمكننا من حصر تلك الأسباب في سببين رئيسين هما:
1 - لم تكن العرب قبل الإسلام تعرف كثيرا من الفنون والعلوم، ولم تكن تحفظ سوى أيامها وحروبها ومعاركها القبلية، وتخلدها في معلقاتها وأشعارها وأهازيجها وأغانيها لدى الكبير والصغير والرجل والمرأة، فكان القياس يتطلب أن تنتشر روايات مغازي الرسول صلى الله عليه وسلم قبل أقواله وأفعاله والأحداث الأخرى، وأن يتأسس فن المغازي قبل غيره. ولكننا نلحظ تأخر روايات المغازي عن الروايات الأخرى، وذلك بسبب اهتمام الخلفاء الراشدين وكبار الصحابة بأقوال الرسول صلى الله عليه وسلم وأفعاله المتعلقة بالشـريعة، وتلك التي تستنبط منها الأحكام الفقهية المتعلقة بالحلال والحرام؛ لأن المهم كان هو بناء الحياة الإسلامية على الأصول والقواعد الشـرعية وتوحيد الأمة، ومن ثم لم يكن هناك مجال لاسترجاع تلك الذكريات التي قد تؤدي إلى إحياء تلك النعرات وغيرها، وبناء عليه لم يهتم أحد من الخلفاء وكبار الصحابة بالمغازي والسير حتى جاء عمر بن عبد العزيز الذي أولاها اهتمامًا خاصًا، فأمر بتكوين حلقات علم خاصة بغزوات الرسول صلى الله عليه وسلم، فأمر عاصم بن عمـر بـن قتادة الأنصاري المتوفى سنة 121هـ -وكان عالمًا بالمغازي- أن يجلس في مسجد دمشق، ويحدث الناس بها وبمناقب الصحابة، فصادف هذا الوضع السلطاني رغبة مكينة لدى عامة الناس في حب الاستماع لمرويات تلك المغازي والسـرايا التي خاضها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مع المشركين من أجل نشـر دعوة الإسلام، فتعلق الناس بأخبار تلك الأيام والأحداث من سيرته صلى الله عليه وسلم، وزاد تبعا لتلك الحاجة اهتمام الرواة بها، والتدقيق في تفاصيلها بشكل لم تستطع المرويات من الأخبار الصحيحة والحسنة مجاراتها، وطغى ذلك طغيانا كبيرا على تفاصيل حياته اليومية وتصـرفاته الاجتماعية وتراتيبه الإدارية، وغدا ذلك واضحا في سلوك الروات والمدونين المهتمين بالسيرة النبوية المطهرة، ولم يمض زمن طويل على هذا الوضع حتى قام الإمام الزهري بتأليف كتاب خاص عن المغازي، وكان هذا الكتاب هو الأول من نوعه، كما صرح بذلك الإمام السهيلي، قال الشبلي النعماني: ويغلب الظن على أن الإمام الزهري ألف كتاب المغازي بناء على طلب الخليفة عمر بن عبد العزيز. ومن الملحوظ أن الإمام كانت له صلة بقصور السلاطين، بل كان من الخاصة، المقربين من الحكام الأمويين، فقد أوكل إليه هشام بن عبد الملك مهمة تعليم وتربية أبنائه.
وبفضل مجالس عاصم بن عمـر بـن قتادة الأنصاري وغيره من الرواة، وتآليف الإمام الزهري وغيره من المدونين، شاع علم المغازي، واشتهر بين الناس فكثر عليه الطلب ومن هذه السدرة نسل علم موسى بن عقبة، ومحمد بن إسحاق، والواقدي في المغازي والسير، ومضى الناس على ذلك المنوال في تناول السير إلا القليل منهم.
2 – لقد كان مدونو التاريخ في القديم وفي الأمم السابقة للإسلام يهتمون كثيرا في تدوينهم لتاريخ أممهم بالمعارك والأحداث الكبرى وتسجيلها بالتفصيل، وأما ما يتعلق بالأحداث الخاصة بنظم الدولة وتسيير أمورها وبالمدنية والاجتماع، فكانوا يعرضون عنها في غالب أعمالهم، وإذا تعرضوا لها مروا عليها مرور الكرام، قال الشبلي النعماني: " ولم يكن ممكنًا أن يبقى التاريخ بمنأى عن هذا التأثير، وقد ظهر بعض هذا التأثير في المغازي. وفقًا للطريقة القديمة لكتابة التاريخ كانت الفتوحات والمعارك والأحداث الكبرى تسجل بالتفصيل، وأما ما يتعلق بالأحداث الخاصة بنظم الدولة وتسيير أمورها وبالمدنية والاجتماع، فكان كتّاب التاريخ يعرضون عنها، وإذا ما تعرضوا لها اكتفوا بإشارات بسيطة لا ينتبه لها القارئ. ولما بدأ التأليف والتصنيف كانت هذه الطريقة هي السائدة، ومن أولى نتائج هذه الطريقة إطلاق اسم المغازي على السيرة النبوية، تمامًا كما يُكتب تاريخ السلاطين تحت عنوان أخبار الحروب أو أخبار السلاطين كالشاهنامه. لذلك نجد الكتب الأولى التي ألفت في السيرة مثل سيرة موسى بن عقبة وسيرة ابن إسحاق تعرف باسم المغازي. وهذه الكتب رتبت الأحداث حسب تاريخ وقوعها تحت عناوين السنين، كأحداث السنة الأولى بعد الهجرة وأحداث السنة الثانية وهكذا، مثل الكتب التي تتحدث عن تاريخ السلاطين. لم يكن بين دفتي هذه الكتب سوى الحديث عن المعارك والحروب ".
إذا كانت هذه الطريقة في كتابة تاريخ السلاطين والدول ليست صحيحة، فإنها من باب أولى لا تناسب كتابة السيرة النبوية. لا شك أن المعارك والحروب جزء لا يتجزأ من حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وفي هذه الأحوال الخاصة نراه في صورة مقاتل أو قائد عسكري، ولكن هذا لا يمثل إلا جانبًا واحدًا من شخصية النبي صلى الله عليه وسلم، وليس كل الجوانب، فكل صغيرة وكبيرة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم تتمثل فيها النزاهة والقدسية والحلم والكرم والعطف والرحمة والإيثار وما إلى ذلك. ولكننا قد ننخدع بتلك الصورة الجزئية، التي تصوره لنا قائدًا عسكريًا كالإسكندر المقدوني الذي لا هم له إلا القتال، ولكننا حين نجيل البصر في حياته الشريفة نجده ملكًا في صورة إنسان.
وقد كان لهذا المنهج أثر كبير في بنية التفكير لدى المسلمين، الذين أصبحوا ينظرون للسيرة النبوية من زاوية المدونين الأوائل، وبمعزل عن السنة الشـريفة؛ حيث غطت مظاهر القوة المعاني الإسلامية السامية في سيرته العطرة، مع العلم أن تلك المعاني كانت أوسع زمانا ومكانا وبشكل كبير عن مظاهر القوة في حياته صلى الله عليه وسلم، ولذلك نجد أن أغلب استدلالات أولئك الذين اختار طريق العنف طريقا للدعوة وتمكين الشـريعة من سياسة الناس في حياتهم تستند إلى أحداث ووقائع من مدونات السيرة أو نصوص تتعلق بتلك الأحداث يجتثونها عن سياقها ويخرجونها عن مسارها وموقعها ليحققوا بذلك ما أرادوا، وقد يكون ما أرادوه هو مقصد الجميع في النهاية لكن سلوكهم الدي سلكوه ليصلوا إلى تلك الغاية ليس سلوكا مرعيا، ولا مقصد شرعيا، ولا هو المنهج الأمثل والطريق المبتغى الذي يقره المنقول والمعقول، والأثر والنظر، ولا هو المنهج الذي ترتاح إليه النفوس وتقبل عليه إقبال المقتنعين المتثبتين.