رحيل المخطوطات: الموت المصنوع بأيدينا وأيدي غيرنا
رحيل المخطوطات: الموت المصنوع بأيدينا وأيدي غيرنا
لا يشك أحد في أن التراث الإسلامي المخطوط قد تعرض لموجات واسعة وقاسية من الإتلاف في كثير من الأحيان أحالت جزءا كبيرا منه إلى العدم فقدت معه الأمة جانبا كبيرا من تاريخها وثروتها العلمية وأقصي به جمهور من العلماء من ذاكرتها, وقد شملت هذه الإبادة مكتبات كثيرة بل تراث مدن بأكملها وقد حصل ذلك بفعل الإنسان وكسب يده – أعني هنا أعداء الأمة والحاقدين عليها ولو كانوا من أبنائها - وكذا الكوارث الطبيعية التي كان لها دور رئيس في الوضع المأساوي الذي أشرنا إليه.
فكلنا يتذكر ما فعله المغول عند دخولهم إلى بغداد في منتصف القرن السابع الهجري حيث عمدوا إلى إلقاء معظم المخطوطات في نهر دجلة حتى تغير لون مائه بلون الحبر نتيجة تحلل الأحبار التي كتبت بها تلك المخطوطات, ويندرج في سلم هذه المأساة ما قام به الاستعمار في البلاد الإسلامية من حرق وإتلاف وإفساد وتدمير للمكتبات ومعها المخطوطات, نكاية في حضارتها وشعوبها فقد قام الاستعمار الفرنسي في الجزائر بحرق عدد من المكتبات في مناطق عديدة من البلاد, ومن أمثلة ذلك مخطوطات زاوية الشيخ الحسين بـ: سيدي خليفة بولاية ميلة, حيث تتحدث رواية الأهالي عن 6000 مخطوط كانت تزخر بها الزاوية لكن الاستعمار الفرنسي حرق عددا كبيرا منها وهرب عددا آخر إلى بلده ولم يبق منها اليوم سوى 400 مخطوط فقط حسب رواية الدكتور عبد الكريم عوفي, ومثل هذا الصنيع قام به الاستعمار في تونس والمغرب وسوريا وكل الدول الإسلامية التي دخلها, ومن هذا القبيل إحراق المكتبة السعيدية بحيدرأباد بالهند من قبل الهندوس المتعصبين وكذا إحراق عدد غير قليل من المكتبات عند احتلال الروس لجمهوريات آسيا الوسطى الإسلامية ( تركمانستان وطاجيكستان وأوزباكستان وكازاخستان وقرقيزستان وغيرها), وكذلك أفغانستان ومثله ما حدث في فلسطين والعراق واليمن, وما فعله الاستعمار الإيطالي في ليبيا, وغيرها من الدول العربية والإسلامية.
وهناك وجوه أخرى لرحيل المخطوطات الأبدي وشبه الأبدي, كان الاستعمار السبب الرئيس في حدوثها, وهو أن الناس لما علموا ما علموا من إفساد المستعمر في تراثهم وسرقته وحرقه, عمدوا إلى إخفائه في الجبال وتحت الأرض لإبعاده عن عيون المستعمر ومتناول يده إلا أن عددا كبيرا ممن قاموا بهذا العمل قد ماتوا قبل أن يخرج الاستعمار من البلاد الإسلامية, فأصبح مكان وجود تلك المخطوطات سرا دفن مع أصحابه إلى يوم الدين, وفي بعض البلاد الإسلامية كانت المخطوطات تلقى في الأنهار والوديان خوفا من بطش المستعمر الذي كان يفتك بكل من يجد عنده شيئا من ذلك, مثل ما حدث في تاجيكستان عندما ازدحمت مياه نهري أموداريا وسيرداريا بأوراق المخطوطات وأحبارها.
وقد أسهم المسلمون أنفسهم عن قصد أو غير قصد في إبادة جزء من تراثهم المخطوط فكثير من المكتبات العامة والخاصة التي تزخر بالمخطوطات, تفتقد إلى أدنى وسائل الحفظ وعمليات الصيانة للمخطوطات. مما أدى إلى تحجر عدد كبير منها حيث أصبح من الصعوبة بمكان فتحه، أو الاستفادة منه، وإن حاول المرء فتحه باستعمال شيء من القوة فإنّ عمله كعمل من يكسر خشبة، أو يفتت طوبًا من الطين، وبعضها يمكن فتحها، لكنك إذا أخذت تقلب صفحاتها فإنك تحيل بيدك ثلث المخطوط بل كله أحيانا إلى العدم، وذلك لهشاشة أوراقه، بل إن طرق الترميم المتقدمة قد لا تفلح في إنقاذه وإعادته للحياة, وهو ما رأيناه بأم أعيننا في مكتبة قسم اللغة العربية في الكلية الجمالية بمدينة ترتشي بولاية تامل نادو بالهند فإن لون أوراق المخطوطات قد تحول إلى الأسود وذلك بفعل الرطوبة وتحلل الأحبار, وكانت أوراق المخطوط متهالكة على الآخر فكنا إذا أخذنا مخطوطا لنطلع عليه سقط جزء منه من أيدينا ترابا, بل إن بعض المخطوطات تم رميها والاستغناء عنها بحضورنا, لعدم إمكانية الاستفادة منها بأي حال من الأحوال, ولما سألنا عن سبب الوصول إلى هذا الوضع تبين أن هذه المخطوطات لم تحرك من مكانها سنين طويلة, ولم تعرف قط صيانة ولا رعاية, ومثل هذه المكتبة في الهند وباكستان وبانقلادش والدول الإفريقية كثير جدا.
وقد كان للظروف الطبيعية دور بارز في عملية الإبادة التي أصابت المخطوطات الإسلامية حيث إن عددا كبيرا من المخطوطات بمنطقة أولف بولاية أدرار بالجنوب الجزائري قد أهلكتها السيول والأمطار الطوفانية التي حلت بالمنطقة سنة 1965 م, ومثل هذا يحدث بشكل كثير ومستمر في كل من باكستان والهند وبانقلادش وأندنوسيا وغيرها من الدول الإسلامية.
ونذكر في هذا المقام إعصار تسونامي المدمر, الذي ضرب دول شرق آسيا والذي وصفه بعضهم ممن كتب لهم معايشته, والنجاة منه بقدر الله, بالقيامة الصغرى, فقد نالت المكتبات العامة والخاصة ومعها تراث تلك الشعوب نصيبها من الدمار الشامل الذي أصاب المنطقة.
إن الوضع السالف الذكر الذي مر به تراثنا ولا يزال في أماكن كثيرة يتطلب منا وقفة جادة ومن المسؤولين على قطاع التراث والثقافة بوجه خاص.
وفي الأخير أسأل الله الكريم الحفظ لأمتنا ولتراثها المجيد.