السنّة وتأصيل مفهوم الثقافة الإسلامية
السنّة وتأصيل مفهوم الثقافة الإسلامية
ليس المقصود من هذا العنوان ضبط حدّ الثقافة الإسلامية من خلال السنَّة، ولا وضع تعريف لها، ولا تحديد مفهومها، وإنما قصدنا البحث في المعاني السنّية الكليّة التي من خلالها تأصّلت في المسلمين روح الفكرة الإسلامية، وانطبع عنهم ذلك المنهج من مناهج المعرفة، الذي هو مفهوم الثقافة الإسلامية.
وقد سلكت السنّة في بناء هذا المفهوم، وتشكيل صورته في نفوس المسلمين؛ لتكون الصورة عينها الواردة في التنزيل، ثلاثة مسالك:
أولا- البيان: ونعني به التعليم؛ تعليمه صلى الله عليه وسلم لأمته عناصر عقيدتها وسلوكها وتعاملها، وبناء أفكارها وتفكيرها، من خلال كلامه صلى الله عليه وسلم ، الذي هو وحيٌ يوحى، حيث تجسّده أقواله، وأحاديثه، وحكمه وخطبه، ورسائله المختلفة، وما بثّ فيها من المعاني المتنوعة مع ترديدها في صورها الجزئية، وربطها دائمًا بالمعاني والمدارك الكليّة، التي تنتهي إليها، والتي تكفّل بإيضاحها مسلك البيان.
ثانيًا- المثال: ونعني به السلوك النبويّ المعصوم؛ لأنّ سلوكه صلى الله عليه وسلم ، يعدّ قدوة ومثالاً، فكان السلوك يلقى في نفوس المتلقّين له والمراقبين لأفعال مصدره، قصد الاقتداء بها، معاني جزئية أيضًا ذات شيوعٍ كلّي بين أفراد الأمة، الذين يتخذون ذلك مثالاً، ويحاولون بالعامل الإيماني أن يطبعوا سلوكهم ما استطاعوا على طابع السلوك النبوي المعصوم. فشكّل ذلك السلوك بجزئياته المختلفة، ومداركه الكليّة، التي ينبع منها، عملاً متصلاً وثقافة راسخة مسترسلة، تلقتها الأمة جيلاً عن جيل من عهده صلى الله عليه وسلم إلى يوم الناس هذا.
ثالثًا- المراقبة: مراقبته صلى الله عليه وسلم لسلوك أمته، كما يراقب المربّي سلوك تلاميذه، وذلك من خلال نصائحه لهم، والإجابة عن استفساراتهم وتساؤلاتهم، وإقرارهم على بعض سلوكهم، الذي ينبع من معنى تمكينهم من حرية تصرّفهم في شؤونهم، وما أوكل لنظرهم واجتهادهم.
والهدف من ذلك هو سلوكهم الذي يطابقونه بسلوكه صلى الله عليه وسلم ، فيكون رشيدًا، أو ينحرفون به عنه، فيكون غير رشيد.
والسلوك الرشيد إنما هو جملة المبادئ القرآنية، التي انطبعت في نفوسهم من تردّد تلك المعاني الجزئية التي ردّد القرآن الكريم مداركها الكليّة، فكان صلى الله عليه وسلم ، يراقبهم بما هو مأخوذ به من أنه لا يقرّ على منكر.
ومن خلال المسالك السالفة تأسست الفكرة الإسلامية، وانبنى عليها مفهوم الثقافة الراجعة إلى تلك المعاني، التي لم تتأصّل في نفوس المسلمين بطريق التلقين والتقرير، وإنما بطريق الممارسة والتربية، وبتعاون التعليم والمثال والمراقبة، كما يرى ذلك الفاضل ابن عاشور.
إنَّ هذا المنهج الذي أحكمت كلياته، وفصلت جزئياته تفصيلاً، نأمل من الأمة أن تعود إليه وتعتصم به؛ فيعتدل به المغالون، ويتمسك به الواقفون، ويرجع إليه السادرون، فهو الملاذ للجميع، وللثقافة الحصن المنيع.
والله نسأل لأمتنا العزّة والثبات...
د. عز الدين بن زغيبة