التراث الإسلامي في جنوب الهند: من يوقف النزيف الحاد
التراث الإسلامي في جنوب الهند: من يوقف النزيف الحاد
ونعني بالتراث الإسلامي التراث المخطوط، الذي خطته أقلام عربية وفارسية،وأردية منذ أحقاب وقرون خلت، هذا التراث الذي يسّر الله الكريم بفضله أن نطلع عليه من خلال زيارتنا لأكثر من ثلاثين مدينة وقرية، ضمّت بين جنباتها أكثر من خمس وثلاثين كلية ومكتبة عامّة وخاصّة، ونتعرف ما أودع بها من مخطوطات ونوادر المطبوعات الهنديّة، التي أفنى فحول الرجال أعمارهم في نظم أفكارها، ورسم عباراتها؛ ليسوق القدر المحتوم ما استطاع الصمود منها أمام حادثات الليالي، وعوادي الأيام، الزمن الطويل إلى الوضع الذي توجد عليه، ولا يمكن للقلم أن يرسم في صفحات معدودة صور مأساة شهد البصر آثارها، ووعى السمع طرفا من أخبارها، ولكن نكتفي بعرض جملة من المشاهدات والملاحظات التي تسيطر على معظم المكتبات المكتبات .
- إنّ أغلب الكليّات والمكتبات، التي تمكنّا من زيارتها، لا توجد بها خزائن أو رفوف خاصّة بالمخطوطات، بل هذه المخطوطات منثورة بين الكتب المطبوعة حسب التقسيم الذي ارتآه المشرف على المكتبة، إن كان هناك بالمكتبة نظام لتوزيع الكتب.
- إنّ الغرف التي تحفظ بها المخطوطات والكتب لا تتوافر فيها أدنى شروط الحفظ والحماية، فضلاً عن الصيانة المستمرة.
- إنّ ترتيب المخطوطات في المكتبات شبه معدوم؛ فالمخطوطات المؤلفة من جزئين فأكثر، تجد جزءها الأول في المكتبة في الخزانة الأولى، أو الرف الأول، وتجد الثاني في آخرها، وهكذا باقي الأجزاء، إن كان لها وجود أصلاً. أما المخطوطات المتفككة أوصالها، وهي كثيرة، فهذه تجد بدايتها في مكان ونهايتها في مكان ثانٍ، أما أحشاؤها فتجدها بين الكتب، أو قد ضُمّت إلى مخطوط آخر، وهو ما أبصرناه بشكل مثير للانتباه في مكتبة الكليّة اللطيفية، التي تُعدّ من أقدم الكليات بجنوب الهند، وأكبرها مكتبة من حيث المخطوطات.
- من الملاحظات التي سجلناها في تلك المكتبات أنّ عددًا غير قليل من المخطوطات إما مبتور الأول أو الآخر، وفي بعض الأحيان هما معًا، مما يجعل تعرّف عنوان المخطوط ومؤلفه فيه صعوبة كبيرة.
- إنّ عددًا غير قليل من المخطوطات توجد به خروم كثيرة، بل إنّ بعضها لا تخلو ورقة من أوراقه منها.
- إنّ بعض هذه المخطوطات أصبح متحجرًا، لا يمكن فتحه، ولا الاستفادة منه، وإن حاول المرء فتحه باستعمال شيء من القوة فإنّ عمله كعمل من يكسر خشبة، أو يفتت طوبًا من الطين، وبعضها يمكن فتحها، لكنك إذا أخذت تقلب صفحاتها فإنك تحمل بيدك ثلث المخطوط إلى العدم، وذلك لهشاشة أوراقه، وأكثر هذه المخطوطات وجودًا في المكتبة المحمديّة بمدراس، وهي من أكبر المكتبات بجنوب الهند، وكذا مكتبة الكلية اللطيفية بمدينة فيلور، وقد سبقت الإشارة إليها.
- لا توجد في المكتبات والكليّات التي زرناها أيّ وسائل أو أعمال لصيانة المخطوطات وحمايتها، مهما كانت بسيطة، إلا محاولات بدائية لاحظناها في مكتبة كلية الباقيات الصالحات بمدينة فيلور.
- عدم اكتراث القائمين على تلك المكتبات بالمخطوطات وعدم إعطائها مكانتها اللائقة بها، بل يعاملونها معاملة أيّ كتاب، وإن أصابها تلف أحرقوها أو دفنوها في التراب، وهذا تحكمه أسباب كثيرة يطول شرحها، ولقد كنا شاهدين على ثلاثة أكياس من بقايا مخطوطات في الكلية اللطيفية ، كانت تزخر بها تلك المكتبة في الزمن الغابر، وهي تودّع إلى مثواها الأخير، ويموت مؤلفوها للمرة الثانية؛ لأن الذكر للإنسان عمر ثانٍ، وذلك عند مشاركتنا إدارة الكليّة وأساتذتها في إعادة ترتيب المخطوطات وجمعها في مكان واحد.
الذي نختم به كلامنا هذا أنّه ما من يوم تغرب شمسه على الهند إلا ويفقد فيها تراثنا المخطوط كلمة فسطرًا ففقرة فورقة فملزمة فمخطوطًا حتى يأتي يوم يكون فيه هذا التراث نسيًا منسيَّا.
ويبقى السؤال:
من يوقف هذا النزيف الحاد، ويضمد هذا الجرج العميق.؟
والله الموفق لما فيه الخير والصواب