لقد آذن صبحك بالبلج
لقد آذن صبحك بالبلج
إن من مقتضيات اليقظة السياسية والفكرية والاجتماعية والاقتصادية في أي أمة أنها لا تعطي لظواهر الأشياء والقضايا وصورها أكثر من حقها الذي تستحقه في الدراسة والتحليل، واستخلاص النتائج، ثم التخطيط وبناء الاستراتيجيات, وكذا في تناول الأحداث والنوازل والواقعات, ولقد شهد تاريخنا الإسلامي انتكاسات كبيرة لفئات كثيرة, اعتمدت في حساباتها، وتقديرها للأمور، ومآلات الأفعال والتصرفات على ظواهر تلك القضايا والأحداث والأعمال والتصرفات ومظاهرها وصورها وأشكالها, وبخاصة إذا كانت نظرة الفاحص الممحص المسؤول المؤتمن نظرة لا تتعدى موضع الخطوة التالية، ويكفيه من منثور اللسان حلاوته, ويقنعه جمال الصورة المصنوعة للأشياء، ولا يكلف نفسه البحث فيما وراءها, ولقد حذرنا ديننا من الاغترار بالمحاسن، وعدم الالتفات للأصول والمنابة؛ حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إياكم وخضراء الدمن قالوا: وما خضراء الدمن يا رسول الله؟, قال: المرأة الحسناء في منبت السوء"، كما علمتنا حوادث الليالي والأيام؛ أن الذي يعطيك من طرف اللسان حلاوة, قد يروغ منك كما يروغ الثعلب.
وبناء على ما سبق فقد كانت الأمة في فترة من تسامحها ترى أنياب الليث بارزة، وكانت تعتقد أن الليث يبتسم، لكنها أدركت أخيرًا أن الأشبال لا تبتسم، فكان لزامًا عليها إعادة النظر في منظومة التقييم برمتها ومن جذورها، وهو ما تعالت به أصوات كثيرة، وسالت في طلبه أحبار غزيرة، تروم إعادة النظر في آليات التمحيص, والبحث في الجذور بدل الاكتفاء بالقشور؛ لأن المؤمن بالأصالة كيس فطن، وأنه ليس بخب ولا الخب يخدعه.
فبدأت تباشير انبلاج صبح جديد في بقاع عديدة من عالمنا الإسلامي تعتمد منهج المراجعة والتصحيح والتجديد العميق لمنظومة التقييم في كل شيء، وبدأ معها بروز تغيير واضح في التفكير الإسلامي في نظرته للغير، وظهر معه اقتناع كبير بين مكوناته بضرورة التعاون الجامع الشامل، وفي الوقت نفسه بدأ يتولد شعور لدى عناصره بأن الدفع الذاتي البيني أفضل من دفع القوة الخارجية التي قد تنفصم في أي لحظة ولأي سبب، وأن استغلال الكفاءات، والاعتماد على الخبرات الوطنية والبينية، لا بد أن يكون حجر الزاوية في العمل.
وإننا نعتقد أن خيوط الصباح البيضاء بدأت تلوح وسط ظلام الليل الدامس الجاثم على صدر أمتنا، وأن أشعة الشمس تشق طريقها نحونا وسط صعوبات بالغة لكنها تتقدم، قد تستغرق وقتًا لكنها ستشرق في بعض أرضنا، ثم يعم نورها إن شاء الله، إن أول الغيث قطرة ثم ينهمر، فقد لا ندرك نحن تلك المرحلة، مع أن الكثير منا سيكون وقود إقلاعها، إلا أن أبناءنا سيعيشونها أمرًا واقعًا بإذن الله، وسيكونون أكثر حرصًا منا عليها، وعلى رعايتها؛ لأن الحياة وقسوة العالم القريب والبعيد عليهم ستعلمهم أن العزة في ازدهار وطنهم، ووحدة أمتهم، وتعاونهم فيما بينهم، وأنه يسعى بذمتهم أدناهم.
والله الموفق لما فيه الخير والسداد...
د. عز الدين بن زغيبة
مدير التحرير