التراث الإسلامي المسار والنتوءات المؤرقة
التراث الإسلامي المسار والنتوءات المؤرقة
لا يشك أحد في أن التراث الإسلامي المخطوط قد تعرض لموجات إبادة واسعة وقاسية, في جميع أنحاء العالم الإسلامي, أحالت في كثير من الأحيان جزءًا كبيرًا منه إلى العدم, فقدت معه الأمة جانبًا كبيرًا من تاريخها وحضارتها وكنوز ثروتها العلمية, ومحي به جمهور من العلماء من ذاكرتها, وقد شملت هذه الإبادة مكتبات كثيرة, بل تراث مدن بأكملها, وقد حصل ذلك بالقوة القاهرة غير المكتسبة أحيانًا, وبفعل الإنسان وكسب يده أحيانًا أخرى.
فكلنا يتذكر المحنتين الشديدتين اللتين حاقتا بتراثنا الإسلامي؛ وأولى هاتين المحنتين ما حدث للدولة العباسية لدى سقوط بغداد على يد المغول سنة 656هـ، فقد أضرموا النيران في المدينة، وخربوا المساجد؛ ليحصلوا على قبابها المذهّبة، وهدموا القصور بعد أن جردوها مما فيها من التحف الفارسيّة والصينيّة النادرة، وخربوا المكتبات، وأتلفوا الكتب التي فيها، إما بإحراقها أو برميها في نهر دجلة، ولكن همجية المغول وبربريتهم لم تتوقف عند هذا الحد، بل جعلوا من الكتب جسرًا يعبر عليه المشاة , وقبل سقوط بغداد، وفي أثناء اجتياح المغول للمدن الإسلامية، دمرت مدن بأكملها مثل " بخارى" و"سمرقند" و "مرو" التي أحرقت عن آخرها ودمرت مكتباتها، التي كانت مفخرة الإسلام, نظراً للعدد الهائل من العلماء الذين أنجبتهم, أو الذين استوطنوها, ولغزارة الإنتاج من التواليف العلمية المتنوعة.
ويعلّق المستشرق "ألفرد غليوم A. Guillaume " بقوله: "ولو أنّ العرب كانوا برابرة كالمغول الذين أطفؤوا جذوة العلم إطفاءً لم ينبعث من بعدهم ألبتة، بسبب ضياع دور الكتب وفقدان الآثار الأدبيّة، لو أنهم كذلك لتأخر عصر الإحياء عن موعده في أوروبا أكثر من قرن.
أما المحنة الثانية؛ فقد حدثت بعد سقوط غرناطة آخر معاقل المسلمين في الأندلس؛ حيث يقول فيها محمد عبد الله عنان في مؤلفه الموسوعي الشهير "دولة الإسلام في الأندلس": " ... واستدعي الكاردينال خمنيس إلى غرناطة ليعمل على تنصير المسلمين، ولم يقف عند تنظيم هذه الحركة الإرهابية التي انتهت بتوقيع التنصير على عشرات الألوف من المسلمين، ولكنّه قرنها بارتكاب عمل بربري وشائن، فقد أمر بجمع كل ما يُستطاع جمعه من الكتب العربية، ونظمت أكداسًا هائلة في ميدان باب الرملة، أعظم ساحات المدينة، ومنها كثير من المصاحف البديعة الزخرفة، وأضرمت النيران فيها جميعًا، ولم يستثن منها سوى ثلاث مئة من كتب الطب والعلوم، وذهب ضحية هذا الإجراء الهمجي عشرات الألوف من الكتب العربية، هي خلاصة ما بقي من تراث التفكير الإسلامي في الأندلس
ويعلّق المؤرخ الأمريكي وليم برسكوت W.Prescott على هذه المحنة بقوله:" إنّ هذا العمل لم يقم به همجي جاهل، وإنما حبر مثقف، ولم يقع هذا في ظلام العصور الوسطى, ولكن وقع في فجر القرن السادس عشر، وفي قلب أمة مستنيرة، تدين إلى أعظم حد بتقدمها إلى خزائن الحكمة العربية ذاتها.
وكذلك فعل الصليبيون عندما قاموا باحتلال بعض السواحل في بلاد الشام، إذ قاموا بإحراق الكثير من المدن والمعاقل والحصون التي كانت تضم المكتبات الزاخرة بأصناف العلوم، ( ويقدَّر ما أتلفه الصليبيون في طرابلس الشرق وحدها بثلاثة ملايين مجلد)؛ حيث ذكر المؤرخ جيبون Gibbon عن تاريخ الدولة الرومانيّة أنّه كان في مدينة طرابلس وحدها على عهد الفاطميين مكتبة تحتوي على ثلاثة ملايين مجلد، أحرقها الفرنجة كلها في سنة 502هـ(1100م) .
ويندرج في سلم هذه الأعمال ما لحق بالمكتبة السعيدية التي تعد من أكبر المكتبات في الهند، وهي مكتبة خاصة تملكها إحدى العائلات العلمية العريقة بحيدر أباد, وقد تعرضت المكتبة لحريق مدبر من قبل بعض المجرمين, حتى يجبر أصحابها على بيع المبنى الذي توجد فيه؛ لأنه كان في موقع تجاري ممتاز, بمنطقة تشار منار في وسط مدينة حيدر أباد, ما أدى إلى إتلاف خزانتين من نوادر مقتنياتها, ونفائس التراث الإسلامي الذي كانت تزخر به المكتبة, وحصل ما أراد المدبرون للحريق؛ حيث بيع مقر المكتبة ونقلت إلى مكان آخر, وهي الآن مغلقة ولا يستفيد منها أحد, والورثة الذين يملكون أمرها لم يبق منهم إلا بنت واحدة؛ هي الدكتورة عائشة ريحانة – الأستاذة بجامعة مدراس - التي ورثت هذه المكتبة عن أمها.
وهذا غيض من فيض مما أصاب التراث الإسلامي من محن, وما ذكرنا من تلك المآسي إلا النزر اليسير, والله الكريم نسأل أن يحفظ التراث الإسلامي وأهله، إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير.