أفكار وفتاوى ابن تيمية وتطبيقاتها على الواقع المعاصر
أفكار وفتاوى ابن تيمية وتطبيقاتها على الواقع المعاصر
الحمد لله نستغفره ونسستعينه ونستهديه, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا, ونصلي ونسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه, ومن حمل دعوته واستن بسنته, واهتدى بهديه إلى يوم لقاه.
مقدمة
إن صاحبنا الذي هو موضوع بحثنا في هذا المؤتمر هو؛ أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم الخضر الشميري الحراني الدمشقي الحنبلي, أبو العباس, تقي الدين بن تيمية, الإمام شيخ الإسلام, المولود في سنة 661 هـ والمتوفى سنة 728 هـ.
إن كل ما يمكن أن يقال في سير الرجال والعلماء والعظماء, والترجمة لهم, وذكر حياتهم في أدق تفاصيلها فقد قيل في ابن تيمية, ولم يبق لمن جاء من المتأخرين شيء يمكن أن يضيفوه لحياة الرجل من الأحداث, إلا ما يمكن أن يأتي به التحليل والاستنباط والسبر والمقابلة لعناصر ترجمته ودراسة سيرته وشخصيته حيث قد تفرز تلك الدراسات بعض الأفكار حول حياته, نتمكن من خلالها فهم أحداث كثيرة لم نتمكن من فهمها من قبل, وبناء عليه فإن سرد ترجمته على العارفين بها وبتفاصيلها أمر لا يضيف شيئا من الناحية العلمية وقد يكون غير مرغوب. ومن هذا المنطلق رأينا عدم التعرض لترجمة الرجل.
أولا: ابن تيمية وحضور مدرسته في المجتمع الإسلامي.
لقد كان عصر ابن تيمية عصرا مثقلا بالمشاكل والجراح, فالتدهور المتلاحق والمستمر كان يطبق على الدولة ونظامها, بل على الحكام أنفسهم, فقد كان أداؤهم لمهمة الحاكم – الحارس للدولة, والمدافع عن بيضة الأمة – في تراجع متتابع ومتلاحق ومتواصل, وكان هذا التراجع المخيف يأتي على الفكر والتصور والسلوك في أغلب مؤسسات الدولة والمجتمع, ومن جهة أخرى كان التمزق ينخر جسد الدولة, حيث تحولت الدولة الإسلامية إلى قطع متجاورات من الأرض, ومن الكتل البشرية, تقام على كل قطعة منها دولة أو إمارة, تسيطر عليها أسرة من الأسر الحرة, أو ثلة من المماليك, وكل تلك القطع الممزقة والمسماة بالدول أو الإمارات أو غير ذلك من الأسماء, كانت مثخنة بجراح معارك الصلبيين واعتداءاتهم, مذعورة من غزوات التتار وحروبهم. ([1])
ولقد كانت البلاد الإسلامية في هذا العصر بدويلاتها وإماراتها بل قبله, قد سيطر على معارفها الدينية والفكرية, وتحكمت في أركانها العلمية, المذهبية في العقيدة, والفقه, والسلوك, ففي العقيدة كانت الأشعرية هي القائدة إلى جانب الماتريدية, أما في الفقه فكانت المذاهب الفقهية المعروفة المشهورة هي المتبعة المقلدة, ومرجعية الحكم والقضاء والحسبة, وأساس التعليم, أما السلوك, فقد كانت طرائق التصوف المتنوعة, هي صاحبة الكلمة العليا في توجيه هذا السلوك كل حسب منهجه وطريقته التي ورثها من شيخه, ولقد كان عدد غير قليل من الحكام والسلاطين والأمراء والولاة ومن رجال الدولة, منضوين تحت عباءة تلك الطرائق, بل إن كثيرا من العلماء وفقهاء المذاهب كانوا كذالك, فهذا ابن عاشر الفقيه المالكي يقول في منظومته الفقهية:
في عقد الأشعري وفقه مالك وطريقة الجنيد السالك
وفي خضم هذه الأوضاع السائدة, والمكينة الجذور في التفكير, والراسخة القواعد في العلم والعمل والسلوك جاء شيخ الإسلام ابن تيمية وحمل معه للأمة نظاما معرفيا جديدا, وضع فيه تصوره ومنهجه ورؤيته في إعادة صياغة البناء المعرفي للأمة, وجعله متواصلا مع منبعه الأول الصافي دون شوائب, ودون وساطة الفلسفة اليونانية, والمنطق الأرسطوطاليسي, وبخاصة في أركانه الرئيسة وهي: العقيدة والفقه والسلوك لما دخل عليها من مخالفات وابتداع, وبناء عليه كانت هذه الأركان هي منطلق الإصلاح عند ابن تيمية, لأنها الأساس في كل بناء معرفي إسلامي صحيح.
ولم يكن الرجل كما تصوره بعض الكتابات المؤالفة والمخالفة على أنه الخصم العنيد للمذاهب العقدية والفقهية والسلوكية وبالجملة فإن الرجل كان يبحث عن الحقيقة وفق منهجه الذي رسمه لنفسه ولاتباعه المبني على الكتاب والسنة واستنباطاته منها وكذا استنباطات كبار تلاميذه.
فمن جهة العقيدة فالرجل سلك مذهب الأئمة الأربعة الذي نسب فيما بعد إلى آخر إمام فيهم ألا وهو الإمام أحمد رضي الله عنه وهو مسلك السلف الصالح وتوحيدهم, مع إضافته لبعض الجزئيات والتفاصيل التي وافقه عليها بعضهم وخالفه البض الآخر ممن ينتمون إلى التوحيد السلفي كما جاء من منابعه الأولى, أما من جهة الفقه فالرجل لم يكن متحاملا على المذاهب كما يسعى البعض إلى اللوذ به في مهاجمة المذاهب الأربعة, فالرجل كان حنبليا وأسرته كانت كذلك وألصق تلامذته به ابن القيم هو حنبلي كذلك, بل أثنى على أصول أهل المدينة ووصفها بالصحة كما جاء في كتابه مجموع الفتاوى, وفي نفس الكتاب أثنى على أصول الإمام مالك في البيوع ووصفها بالجودة وبين أن الإمام أحمد قد تبعه في معظمها, وكان يجل الأئمة الأربع ويثني عليهم بل لا يجد أي حرج عندما يقول في كتابه مجموع الفتاوى " قال السادة المالكية " مع أن قاضيهم في مصر هو الذي سجنه, ولم يكن ينكر على السلوك والتزكية والتربية الروحية ولا رجالها النزهاء المخلصين وإنما كان ينكر ما علق بها مما هو ليس من أصول الشريعة ولا من مقتضيتها.
([1]) طه جابر فياض العلواني: ابن تيمية وأسلامية المعرفة, 18.