نزيف الذاكرة

       ما من شيء يخلق في الوجود إلا ويمر في دورة حياته بأحداث وأحداث، مفرحة، ومحزنة، مفيدة، وضارة، متتالية، ومتقطعة، فردية، وجماعية .

       وهذه الأحداث، بغض النظر عن صغرها وكبرها، منها ما يلفه النسيان، ومنها ما يبقى ماثلا للعيان، شاهدا على ما مضى، وما وقع .

       ولسنا نعني بالذاكرة هنا ذاكرة الإنسان الفرد، التي تحفظ له ذكرياته، وأفراحه، وأحزانه، مما علمه الناس، ومما لا يعلمه أحد إلا الله عز وجل .

       ولكننا نقصد الذاكرة الجماعية للأمة، وكذا ذاكرة مؤسساتها، وبخاصة الثقافية منها .

       فهذه الذاكرة تشكو من نزيف حاد مقصود، وغير مقصود، يستهدف تخليتها من تاريخها، وهويتها، وتراثها، وإنجازاتها، وبطولاتها، وأيامها، ومن كل صنيع يشهد الحجر والمدر أنه من عملها، حتى تكون كالشجرة الخبيثة التي اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار، وهكذا الأمر في مؤسساتها التي تحمل معنى هويتها، ورمز لسانها، وديوان تاريخها وتراثها .

       فأما المقصود منها: فيكون بيد عادية، يدفعها إليه الانتقام التاريخي، والعداء للهوية ، أو بيد منها يدفعها إليه الحقد على إخوانها، فهي لا تعرف للمواطنة معنى إلا في أوراق تحملها، ولا للهوية طعما إلا اسما تتحلى به، وقد يكون بتعاونهما معا، وهو الأخطر ما في المقصود .

       وأما غير المقصود: فيكون ظاهرا في عمل المؤسسات عندما يوسد أمرها إلى غير أهلها ، ويلقى الزمام بيد من لا دراية له بحالها ، بحجة الانتماء المذهبي، أو الحزبي، أو باسم المصلحة العليا ، أو باسم المصلحة العامة للمؤسسة .

       فيعمد هؤلاء تحت غطاء إعادة الهيكلة، أو التنظيم، أو العصرنة، أو التحديث، أو ما شئت من المصطلحات ، إقالة ماضي المؤسسة ومسح ذاكرتها كليا، أو جزئيا، وكأن العمل بدأ من هذه اللحظة، وهكذا كلما جاءت فرقة لعنت أختها ، وتلعن المؤسسة نقطة الصفر التي كلما خرجت منها أعيدت فيها بفعل هؤلاء وهؤلاء .

       ويبقى السؤال المطروح متى ننطلق ؟