الفرصة الضائعة... هل تعود يومًا؟
لقد كان العالم قبل عشرين عامًا يعيش حربًا باردة مقيتة، بلغت أقصى درجاتها، عندما بلغ هاجس التخوّف لدى السوفييت من هجوم نووي غربي وشيك عليهم أقصى درجاته؛ حيث كاد هؤلاء أن يرتكبوا حماقة تاريخيّة، عندما فكروا في قرار هجوم نووي وقائي على الغرب.
لقد كان أقطاب العالم من الغرب والشرق يومها مأسوري الفكر والتفكير بتلك الحرب، مسخرين لها كامل طاقاتهم ومهاراتهم ومواردهم الماليّة المتنوعة، وكان الصراع محمومًا في استقطاب الدول إلى هذا القطب ذاك، وربما أفادت دولٌ كثيرة امتيازات عديدة، ما كان لها أن تفيدها لولا الحرب الباردة، إما لموقعها الاستراتيجي والجغرافي، وإما لقدراتها الاقتصادية وولائها الإيديولوجي والفكري.
في هذه الحقبة كان لدول العالم الثالث والنامي فسحة في أمرها، وهامش كبير للمناورة؛ فمن كان منها عدوه شرقيًّا كان هواه غربيًّا والعكس صحيح، بل إنّ بعض الدول قد أفادت من دعم تكنولوجي وتقني مكّنها من تطوير قدراتها العسكرية التقليدية والتكتيكية والاستراتيجية، لا لشيء إلا لأنّ تلك الدول قد تزيد في مساحة نفوذ أحد القطبين.
لقد كانت تلك الحقبة فرصة تاريخيّة عظيمة للعالم العربي والإسلامي لأن يحدث نقلة نوعية في جميع نواحي حياته السياسية والثقافية والاقتصادية والعسكرية، وكان بإمكانه أن يفعل الكثير في تلك الغفلة العالمية، وبخاصة أن الله حباه كثيرًا من المزايا يحسد عليها، من أرض وثروات وطاقات بشرية مبدعة وخلاقة.
نعم كانت فرصة ثمينة، كان بإمكان العالم العربي أن يفعل فيها الكثير. كان من الممكن أن يبني فيها الشخصيّة الوطنية المخلصة، التي لا يغير تبدل الظروف والأحوال في ولائها لدينها ووطنها وأمتها. كان من الممكن أن تؤسس قواعد ثقافية صلبة ومكينة، لا تؤثر فيها الإيديولوجيات. كان من الممكن أن تبني اقتصادًا راسخًا قادرًا على مقاومة التقلبات. كان من الممكن أن تبني مجتمعًا واعيًا مترابطًا متماسكًا لا تفككه الأهواء ولا الصراعات. كان من الممكن أن تؤسس منظومة تعليمية مكينة ثابتة الأصل، لا كالشجرة التي اجتثت من فوق الأرض مالها من قرار. كان من الممكن أن تنشد منظومة دفاعيّة وعسكرية تكسبها المهابة في عين عدوها، ويحسب لها في الأمور حسابًا.
مضت الأيام والسنون ولم يقع شيء من هذا، وضاعت معها الفرصة التي قد لا تتكرر إلا أن يشاء الله.
كيف يعيد التاريخ نفسه، وقد استقر العالم على قطب واحد وقوة واحدة، هي الحارس والحرس، وهي الخصم والحكم، وبخاصة بعد أن تخلصت من عدوّها التقليدي إلى غير رجعة، وقد تفرغت لما تعدّه حرية وديمقراطية وحقوق إنسان نظامًا عالميًّا جديدًا، يجب على الجميع الانخراط فيه.
لقد تنفس صبح العهد الجديد، والعالم العربي لا يملك شيئًا يدافع به عن نفسه، وأصبح هو المستهدف الأول والآخر.
فراح الآخر يمعن في إملاءاته وتدخلاته، ويعلنها صراحة أنه يريد إعادة تشكيل الشخصية الإسلامية وصياغة ثقافتها.
وبناء عليه لا نستغرب إطلاقًا إذا أعلن يومًا في زاوية ما من العالم العربي أنه طُلب من الناس تغيير أسمائهم بما يتناسب وثقافة العالم الجديد.
والله الحافظ من كل سوء
مجلة آفاق الثقافة والتراث
العدد 49